الرحيـل الـمُّـر
- على أطراف المدينة الهادئة، منزل من الطين
يسكنه الشاب سعيد مع والدته الكبيرة في السن،
والتي أقعدها مرض هشاشة العظام، فأصبحت طريحة الفراش.
وبينما هو عائد من عمله مع غروب الشمس، سمع دوي عدة انفجارات بالقرب من المدينة،
سارع بـالخطى نحو بيته. وبعد أن اطمأن على والدته، ناولها كوبا من الماء، وجرعة العلاج المعتادة.
لاحظت الأم علامات الارتباك والقلق على وجه
ولدها الوحيد، فنادته:
ماذا بك يا ولدي؟ وما هذه الأصوات بالخارج!
سعيد: إنها أصوات انفجارات تقترب من المدينة يا أمي.
الأم: لعل الغزاة قد اقتربوا، إنهم يستهدفون أمننا واستقرارنا، وإنني خائفة عليك، فلتبحث لك
عن مكان آمن.
في تلك اللحظة، جاءه اتصال من أحد أقاربائه
يحذره من البقاء في المدينة وبأن عليه الرحيل الآن،
لأن الغزاة قادمون، يدمرون كل شيء أمامهم،
ويستهدفون فتيان المدينة، فيأسرونهم، ويجعلونهم
وقودا لمعاركهم. عليك أن تتصرف الآن، لا تتأخر،
لم يعد في الوقت سعة.
أغلق هاتفه، وأطرق برأسه أرضا، والأسئلة
تنهش تفكيره، وازداد قلقه وارتباكه.
إلى أين سأذهب؟
وكيف سأترك والدتي المريضة بمفردها؟ وليس بمقدوري حملها أو تحريكها.
فالتفتت إليه أمه، وهي تمد يدها إليه،
لتناوله صرة بها بعض النقود، وتقول: خذها مني يا ولدي.
وعليك أن تبتعد عن المدينة الآن،
ولا تقلق عليّ، فالله سبحانه وحده سيتكفل بي.
تناول منها النقود على مضض والغصة تخنقه،
والعبرات تسيل من عينيه،
فقبل رأسها ويدها، وأوصته بأن ينتبه على نفسه جيدا، ولسانها يلهج بالدعاء له، ثم استودعها الله.
اتجه سعيد إلى بيت جاره خالد، ليخبره بأنه عازم على الرحيل، وأوصاه بأن يشق على والدته، لحين عودته بعد أن يزول الخطرعن المدينة، ثم تصافحا، وغادر باتجاه الطريق.
يلوح سعيد بيده لسيارة عابرة، فتوقفت ،ثم ركب إلى جوار السائق،
سأله السائق إلى أين وجهتك؟
قال سعيد: لا أعلم، فإنني أبحث عن أي مكان آمن،
أختبئ به،
وأتوارى عن الغزاة.
أجابه السائق: لم يعد في البلاد أمنا وأمانا،
وماعليك إلا الهجرة، كما هاجر غيرك.
سأوصلك إلى الشاطئ ، وستجد هناك زوارق مطاطية، جاهزة لمساعدة الهاربين من هذا الجحيم،
تنقلهم إلى أرض الله الواسعة.
قال سعيد: حسنا إذن، فلنتجه حالا.
بدأ السائق يسلك طرقا غير معبدة، ووعرة أحيانا،
كي لا يشاهدهم أحد، ولا توقفهم الحواجز على الطرق العامة
حتى وصلا إلى أماكن تجمع السفن الصغيرة. فأشار إليه بالنزول.
شكره سعيد، ودفع له الأجرة،ثم حمل حقيبته على ظهره، وسار باتجاه الشاطئ، حيث مجموعة من الناس متجمهرين أمام زورق،فإذا أحدهم ينادي: سنغادر الشاطئ باتجاه أوربا بعد قليل، فإذاأنتم جاهزون اصعدوا إلى المركب حالا.
فبدؤوا يصعدون المركب المطاطي،
رجالا ونساء وأطفالا، وتكدسوا فوق بعضهم بعضًا،
فيميل المركب يمنة ويسرة. والذي ليس به أية وسيلة للسلامة أو الإنقاذ، سوى من بعض عجلات مملوءة بالهواء.
صعد قائد المركب ومعه مساعده، فأدار المحرك،
وهو ينادي بأعلى صوته، عليكم الالتزام بالهدوء،
وإلا ستعرضون المركب للغرق، ومضى بهم إلى وسط البحر.
وبعد أن ابتعد عن الشواطئ قرابة مسير ساعتين، توقف فجأة،
ونادى بهم: أعطوني جوازات سفركم،
لأن السلطات الأوربية لو عثرت علىالوثائق معكم؛ فإنها ستعيدكم إلى دياركم،
فسلم الجميع جوازاتهم له.
ثم نادى بهم مرة أخرى: هيا جهزوا نقودكم،
والأجرة كما أخبرناكم سابقا ب 1000 دولار للشخص الواحد مع حقيبة واحدة فقط.
فقام سعيد بعد نقوده فوجدها لا تكفي.
فناولها للمهرب، وقال له: هذا كل ما لدي،
ولا أمتلك غيرهم، فغضب منه المهرب
وأخذ حقيبته عنوة،ورماها في البحر،
وجميع توسلات سعيد لم تجد نفعا.
لم يتبق أي شيء مع سعيد، سوى ما كان يستر به جسده.
و بعد مسير أربعة أيام بلياليها، وسط الأمواج المتلاطمة، وصرخات الركاب بين الحين والآخر ،
من تدفق المياه الى داخل المركب،
وقلة بالطعام وشح في مياه الشرب، حتى أنهك الجميع في هذه الرحلة.
وما إن رأوا أنوار مدينة من بعيد، حتى بدؤوا يكبرون ويهللون، فرحين باقتراب نهاية مأساتهم، ومعاناتهم،
فينبعث فيهم الأمل بالحياة من جديد، وتشتد عزائمهم.
و عندما لم يتبق لهم بالوصول للشواطئ سوى مئات الأمتار، وإذ بالمهرب يزمجر بهم،
هيا ألقوا بأنفسكم من المركب سريعا،
فالسلطات تتحرك باتجاهنا وكل واحد
مسؤول عن نفسه بعد هذه اللحظة.وبحركة جنونية منه أدارالمركب بعنف شديد، فسقط جميع من بداخله في البحر، ثم فر هاربا مع مساعده.
وصار الجميع يصرخون وهم في جنح الليل، ويصارعون الأمواج بأيديهم العارية، وبأجسادهم متعبة منهكة.
فمنهم من أكمل سباحة باتجاه الشاطئ،
ومنهم من تعلق بعجلات الهواء،
وبعضهم غرق في أعماق البحر،
أما سعيد فقد تمسك مع أحد الفتيان بعجلة النجاة،
كل ما خارت قواه،سقط في الماء، فينتشله زميله،
ومكثوا على هذهالحال،
لحين أن وصلت طلائع قوارب خفر السواحل،فأنقذوهم الواحد تلو الآخر،
و ساروا بهم إلى مستشفي ميداني خاص
باللاجئين على شواطئ الأراضي الألمانية حيث تمت معالجتهم هناك،
وما أن مكثوا بها خمسة أيام، وبعد أن استقرت حالتهم الصحية؛ تم إرسالهم إلى مراكز الإيواء المخصصة للجوء الإنساني.
فقامت اللجنة المسؤولة عن المركز ، بتسجيل أسمائهم ، وأخذ بصماتهم وتوقيعهم على أوراق رسمية، من أجل تحويلهم للمحاكم المختصة لدراسة أحوالهم، ومعرفة سبب مجيئهم إلى ألمانيا، وعن كيفية وصولهم.
مكث سعيد قرابة الشهرين في دار اللجوء، حتى جاءه الأمر بالحضور لجلسة استماع لأقواله أمام القاضي.
وبعد أن أخذت جميع أقواله ، أبلغ القاضي السلطات المحلية بالموافقة على
منح سعيد إقامة مؤقتة فيالبلاد، ومنحه شقة سكنية،
وأن يصرف له راتبا شهريا، يسد بهحاجته،
ويوفر احتياجه، والسماح له بالتعلم في مدارس الدولة،
لكي يتقن اللغة الألمانية ومن ثم يتم دمجه مع المجتمع بشكل تدريجي.
وقبل أن يؤذن له بالخروج من قاعة المحكمة،
سأله القاضي:
ماذا تريد يا سعيد؟ وماذا تتمناه؟
أجاب سعيد: يا سيدي القاضي،
فقط أريد التحدث مع والدتي المريضة،
وهي قلقة علي الآن، ولا تعلم عني
أي شيء منذ أشهر، وليس لدي هاتف كي أكلمها،
فلقد رموا كل متاعي في البحر.
أمر القاضي بإحضار الهاتف على الفور،
مع تجهيز اتصال خارجي.
تم الاتصال بجاره خالد، ومن ثم أوصله بوالدته،
تكلم سعيد مع أمه بصوت مبحوح، يخالطه لهفه وبكاء ودموع، يسألها عن صحتها وعن أحوالها، ويطمئنها عن نفسه بوصوله سالما،وأنه بخير وعافية، ثم أنهى الاتصال.
شكر سعيد القاضي، وناوله الهاتف،
واستأذنه بالتوجه إلى شقته التي قررتها المحكمة،
فخرج برفقة موظفة لشؤون اللاجئين،
التي أوصلته إلى باب شقته، وسلمته مفاتيح البيت،
وأخبرته بأن الجمعيات الخيرية ستزوره أيضا،
وستوفر له كل احتياجات المنزل.
دخل سعيد الى غرفته، وألقى بجسده المنهك علىالسرير،
وكأنه يتنفس طعم الحرية من جديد.
في صباح اليوم التالي حضرت مشرفة من الجمعية الخيرية، وبرفقتها المسؤولة عن اللاجئين،والتي أحضرت معها خزانة للملابس وبعضاً من الأثاث، ولوازم المطبخ، ومدفئة كهربائية، بسبب برودة الطقس الشديدة هنا،
وأيضا بعضاً من المواد الغذائية المتنوعة، وعددًا من الألبسة والمعاطف، وكذلك تذاكر مجانية ليستخدمها بالتنقل في حافلات المدينة، فرح سعيد بهذه اللفتة الإنسانية العظيمة في بلادهم ، ولكن فرحته كانت دوما ناقصة بسبب ابتعاده عن والدته، وهجرته عن وطنه.
استأذنت منه مشرفة الجمعية الخيرية بتفتيش منزله، لتبحث فيه عن أية نواقص أخرى، لتحضرها له فيما بعد.
وبعد أن أكملت مهمتها المحددة، اقتربت منه مسؤولة اللاجئين، تسأله عن حالته النفسية، ومدى رضاه عما يقدم له، وهل هناك أية مضايقات عليه من الجوار؟ وما مدى تعلمه لبعض مفردات اللغة الألمانية؟ فتحفزه وتشجعه على الاستمرار بالتعلم والإتقان .
ثم خرجا من المنزل، وهو يلوح لهما بالتحية والاحترام والعرفان، وبابتسامة شكر وثناء على اهتمامهم به، وما قدموه له.
جلس سعيد على مقعد بجوار النافذة، يشاهد من خلالها تساقط الثلوج، التي غطت الأرض بطبقة بيضاء كثيفة، وتلك السيارات الصغيرة متوقفة عن الحركة، سوى المزودة منها بسلاسل لاجتياز الثلوج . شعر سعيد بقشعريرة البرد، فقام على الفور بإحضارالمدفأة وأشعلها، ثم اقترب منها.بدأ سعيد يتلمس جسده الذي نحل كثيرا، وأطرافه التي تغير لونها، فذهب في تفكير عميق، شارد الذهن، يحاور نفسه بأسئلة تراوده، متعجبا كيف لي أن قطعت كل تلك المسافات الطويلة؟ وكيف وصلت إلى هنا؟ وهل سأعود إلى بلادي؟ وكيف سيكون لقائي بوالدتي ورفاقي، وأصدقائي؟
وتمر سلسلة الذكريات سريعة أمام عينيه،
فتسيل دموعه، ويضيق صدره،فيحمد الله على ما أصابه، محتسباً الأجر على ما لحق به، ثم غط في نوم عميق.
استيقظ سعيد في صباح اليوم التالي، ثم نهض من فراشه، قاصدا ترتيب الأشياء في المنزل، ولوضع الملابس الجديدة فيالخزانة،
وحفظ المواد الغذائية في الثلاجة وعلى الأرفف ،
ففتح الخزانة أولا ثم وضع بها المعاطف،
ولكن أحد الأدراج كان مغلقاً بإحكام، حاول سحبه عدة مرات ولكن دون جدوى، فاستعان بقطعة من الحديد،
وقام بالطرقعلى القفل كثيرا حتى أن فتحه،
و لكنها كانت المفاجأة!
يا إلهي! إنه مملوء بالدولارات، فتلمسها،
نعم إنها نقود ورقية، دقق بها مرة أخرى،
وهو غير مصدق،بل إنها حقيقية، ثم قام بجمعها،
وترتيبها، وعدها، وكان مجموعها مايقارب
المليون دولار، ففرح بها كثيرا.
لقد أصبحت الدنيا كلها في متناول يديه،
فأخذ يفكر بالأمر قليلا،
وبعد برهة من الوقت، نهض من كرسيه على الفور
وأحضر حقيبة صغيرة، ووضع جميع النقود بداخلها،
ثم خرج من البيت مسرعا، متجها
إلى عنوان مقر الجمعية الخيرية.
وعندما وصل إلى بوابة الاستقبال، طلب من الموظف أن يلتقي بمدير الجمعية لأمر هام وعاجل.
وعلى الفور تم إبلاغ المدير بزيارة هامة وعاجلة،
من لاجئ يدعى سعيد.
سمح له بالدخول، فألقي بالسلام والتحية،
وبابتسامة مشرقة، عرف بنفسه،
ثم وضع الحقيبة على طاولة المدير، وقال له: إن هذه الحقيبة لكم.
المدير: لنا ؟ وماذا في داخلها؟
سعيد: مليون دولار.
المدير: مليون دولار! ـ ضحك بقهقهة عالية ـ
وقال: هل بك خلل في عقلك؟ نحن لم نقم بتوزيع أية مبالغ نقدية على أحد قط ،
وعملنا مقتصر على توزيع الحاجات العينية.
سعيد: لقد عثرت على المبلغ داخل أحد
أدراج خزانة الملابس والتي أحضرت لي بالأمس.
نهض المدير من مكانه مذهولا، ونادى على سكرتيره الخاص، فطلب منه البحث عن اسم وعنوان الذي تبرع للجمعية بتلك الخزانة، وأن يبلغه بالحضور إلينا حالا.
عاد المدير وجلس إلى جانب سعيد،
وهو يشكره على عظيم صنعه وأمانته،
ووفائه، مندهشا مما فعله هذا اللاجئ،
مع أنه بحاجة ماسة لذلك المال،
وأنه فاقد لكل شيء بسبب ذلك الرحيل القاسي عن موطنه.
فهنأه مرة أخرى على حسن أخلاقه، وتصرفه الحميد.
طرق باب المكتب، فأذن له بالدخول، فإذا شاب في مقتبل العمر، وعرف بأنه صاحب الخزانة.
سأله المدير: هل الخزانة لك؟ وأنت مالكها؟
ومن أين أتيتنا بها؟
قال:نعم إنها تعود لوالدتي التي توفيت مع والدي منذ سنوات في حادث، وظلت غرفتها مغلقة طوال تلك السنوات،وعوضا عن أبيعها في سوق الأثاث المستعمل، فضلت بأن أتبرع بها للمحتاجين، صدقة عن والدتي ووالدي.
سأله المدير: هل كان بداخلها شيء؟
قال: لا ، إنها فارغة تماما،
سوى أحد الأدراج لم استطع فتحه بالمفتاح، وعلى ما يبدوا أنه تالف لقدمه، فتركته على حاله.
فابتسم مدير الجمعية، وقال له: لقد أعطينا تلك الخزانة لشاب مسكين،
قدم إلى بلادنا هاربا من جحيم
الحرب المستعرة في بلده، وعندما فتح ذاك الدرجالمغلق؛
عثر بداخله على مليون دولار.
إنه الأخ سعيد الذي يجلس معنا الآن،
حيث جاءنا بنفسه وسلمنا هذه الأمانة.
ابتسم صاحب الخزانة، وهو ينظرإلى سعيد، فطلب من مدير الجمعية أن يهب نصف المبلغ لسعيد، وما تبقى بأن ينفقه على المحتاجين لدى الجمعية. فشكرهم بامتنان على أمانتهم جميعا، ثم خرج.أجرى مدير الجمعية اتصالات عديدة مع رجال الصحافة وقنوات التلفاز، ليبلغهم بالخبر السار،والموقف النبيل. فحضروا جميعا، ثم أجروا لقاءات مطولة مع الشاب سعيد، وتم نشر الخبر باليوم التالي،
وفي مقدمة نشرات الأنباء، وعلى صدر الصفحات الأولى للصحف المحلية، بعنوان: ( “أمانة لاجئ “).
وقام مدير الجمعية بتسليم المبلغ المخصص لسعيد،
ثم ودعه بعبارات الشكر وعظيم الامتنان.
غادر سعيد المقر بعد تلقيه تلك الحفاوة الكبيرة،
من كافة موظفي الجمعية والصحفيين ورجال الإعلام.
وقرر بأن يذهب أولا إلى سوق الهواتف النقالة،
لشراء جهاز محمول،
كي يزف البشائر لوالدته،وليبلغها بتفاصيل ما حدث معه اليوم.
عاد إلى شقته، وأجرى اتصالا مع جاره خالد،
وطلب منه أن يوصله بوالدته ليكملها.
فأخبره بأن والدته قد ساءت صحتها كثيرا منذ أسبوع، ونقلت على الفور إلى المستشفى العام،
ولكنها لم تتحسن . وتوفيت في ليلة البارحة.
عظم الله أجرك يا سعيد، وهذه هي حال الدنيا يا بني، البقاء لله وحده
لم يتمالك سعيد نفسه، وهو يستمع إلى هذه الأنباء الصادمة، فأجهش في بكاء مرير،
- و هو يردد : إنه الرحيل المر … إنه الرحيل المر.
فحزن على وفاتها حزنا شديدا، وتألم لفقدها ورحيلها كثيرا.
لم تغب عن باله يوما، ولم تجف له دمعة.